تمطر السماء، فتطهر الأرصفة من الغبار، وتمنح الأرض فرصة جديدة لتتنفس، لكن ماذا عن القلوب؟ هل يستطيع المطر أن يتسلل إليها كما يتسلل بين أوراق الشجر، أن يُنقيها من أثقالها كما يفعل بالطرقات المبتلة؟ أم أن بعض الأوجاع أعمق من أن تمحوها قطرات عابرة؟
هناك حنين يسكننا كأثرٍ قديم، لا تزيله مواسم المطر، بل يزداد وضوحًا كلما تساقطت الذكريات مع القطرات، تُرى، هل المطر عزاءٌ للأرواح المرهقة، أم مجرد موسيقى حزينة تعيد إلينا ما ظننا أننا نسيناه؟ ربما هو مرآة صامتة، تعكس ما في داخلنا، تجعلنا نرى بوضوح كل ما تهربنا منه طيلة الأيام الجافة.
يقال إن للمطر ذاكرة، يحتفظ بالأسرار التي همسنا بها تحت زخاته، بالخطوات التي مشيناها ونحن نحمل في داخلنا أثقالًا لا تُرى، هناك من يجد في المطر راحة، كأنه طقسُ تطهيرٍ خفيّ، يزيل ما تراكم من خيبات، يروي بذور الأمل التي كادت أن تجف ، وهناك من يرى فيه مرآةً للألم، حيث تتساقط معه الذكريات كأوراق خريفٍ مُبللة، تتناثر دون أن تموت تمامًا.
لطالما شعرتُ أن للمطر لغةً خاصة، لا يفهمها إلا من أصغى بقلبه قبل أذنيه، قطراته ليست مجرد ماء يهطل من السماء، بل رسائل مبعثرة، بعضها يطفئ نار القلب، وبعضها يشعلها من جديد.
أتساءل أحيانًا، لماذا يبدو كل شيءٍ مختلفًا تحت المطر؟ الطرقات، الأشجار، والبشر أيضًا! كأن الغيوم حين تبكي، تطهر أرواحنا معها، فتتجرد الأشياء من ضجيجها المعتاد، وتعود إلى بساطتها الأولى.
ثمة هدوء يفرضه المطر، لكنه ليس هدوء الصمت، بل هدوء التأمل، كأن العالم يتوقف لوهلةٍ ليستمع إلى حديث القطرات، كأن السماء تهمس للأرض بحكايات قديمة، وأسرار لا يفهمها إلا من تآلف قلبه مع الحنين، حتى الوجوه تحت المطر تختلف، منها من يختبئ، ومنها من يبتسم لبللٍ يشعره بالحياة، وكأن الماء الهاطل يغسل شيئًا أعمق من الجلد، شيئًا متجذرًا في الروح.
ربما لهذا السبب نرى في المطر شيئًا سحريًا، لأنه يُعيد تشكيل الواقع، يتركنا للحظة خارج كل شيءٍ مألوف، يمنحنا فرصة لنتنفس ببطء، لنستمع إلى نبضنا.
في كل نقطةٍ تسقط، هناك قصة تُروى، هناك نبضٌ قديم يعود للحياة، هناك لحظة حبٍّ لم تكتمل، أو وداعٌ لم يُقل كما يجب، المطر يُعيدني إلى ذاتي، إلى أولئك الذين غادروا، وأولئك الذين بقوا، إلى وعودٍ قُطعت ثم تلاشت، وأحلامٍ تشبثت بالحياة رغم العثرات، المطر ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل ذاكرةٌ متجددة، تحفظ كل ما نحاول نسيانه.